الثلاثاء، 23 فبراير 2010

الحياة التجارية في بلدة الخليل القديمة


إعداد :  وفاء وائل عابدين.

كغيرها..من أسواق ومراكز تجارية.. تغنى بحركتها التجارية المواطن الفلسطيني..حيث أنها باتت اليوم تقف شاهدة وشهيدة على ما ألم بها من جراح جراء الإغلاق الذي تتعرض له .. فمنذ بداية انتفاضة الأقصى وهذه البلدة وذاك السوق يرنو إلى أن يعود كما كان.. يضج بالحركة التجارية..وتفوح منه رائحة حرية التنقل..لكن مجموعة من المستوطنين لا يتجاوز عددهم الخمسمائة يحرسهم ما يفوق الألفين عسكري إسرائيلي .. لينغصوا حياة أكثر من سبعمائة وخمسين ألف مواطن فلسطيني يعيشون في مدينة الخليل وقراها وأريافها ومخيماتها.


حينما نسمع (بلدة الخليل القديمة) .. فإنه يتكون لدينا الإحساس والشعور أن سوقها قديم وقديم جداًُ .. لكن لا شيء يبقى على حاله وكما نريد بفعل وجود أشد أعداء الإنسانية والحياة..على أرضنا العربية الفلسطينية..مما سببوا إغلاقا تاما لهذا السوق الذي يرتبط بكنعانياتنا ..فقد قدر باحثون أن عمر السوق هي من عمر مدينة الخليل الكنعانية والتي زارها أبونا إبراهيم عليه السلام وبها العديد من قبور وشواهد على هذا.

يقول الحاج محمود عثمان البالغ من العمر زهاء السبعين عاماً أنه ورث محله عن أبيه وكذلك الحال كان بالنسبة لأبيه .. ويحمل تحت أكتافه كافة الأوراق الثبوتية في هذا المضمار .. وروى لنا شيء عن مدى تشبثه بمحله الصغير الواقع في سوق يسمى (خزق الفار) أطلق عليه اسم كنعان للبذور الزراعية وبعض أنواع الأشجار .. وكان يعمل فيه منذ نعومة أظفاره .. وعمل معه حديثاً اثنين من أبنائه .. وعن مستوى البيع وتقديره لذلك قال أنه كان يجني ما نسبته خمسون دولاراً يومياً .. لكن اليوم محله مغلق بفعل ذاك الإغلاق الذي يشمل ما يتجاوز الثمانين بالمائة من محال سوق الخليل العتيقة .. الذي يفرضه مستوطنين وجنود الاحتلال عليهم وعلى محلاتهم التجارية.

 كنت صغيرة .. وكان جدي يصطحبني إلى هناك .. حيث كل ما يطيب ويخطر ببالي كطفلة لم تتجاوز السبع سنوات موجود داخل السوق .. كنت التفت يميناً ويساراً .. فأشاهد حركات الناس العابرين .. ومدى ارتياحهم وانبعاث الحياة وتجددها فيهم ..لا لشيء إلا أنهم يقتربوا زلفا زلفا من حرم الله إبراهيم .. التي تقف مآذنه هي اليوم أيضا حزينة .. فمتى يطيب لذلك السوقي القادم من إثيوبيا أو متى يحلو لتلك الشقراء القادمة من مراقص روسيا أن تسمح لمؤذنه بتلاوة الأذان ومتى تشاء ترفض وتمنع.
اليوم كل شيء يعتريني بغضب .. لا شيء بقي على حاله .. سوق الخليل القديمة استبدل ثيابه وبدل ألوانه وتغيرت الأسماء والمداخل .. والذي يمر من هناك لا يشاهد سوى كلمات اللغة اليديشية  مكتوبة على حيطان وجدران محال سوق الخليل القديمة .. وأسماء شوارع تغيرت فبدل العربية الأصلية أصبحت الأسماء عبرية مجمعة من هنا وهناك .. اليوم .. تفوح رائحة الجدران والصدى من شوارع الخليل القديمة .. وكانت البهارات والتبولة والبخور..وكانت الأصناف والأنواع تفيض وتفيض لتخصب وتنضب الزمان والمكان ليبقى مليئا بأنواع الحياة.
وأبو حسن الجعبري له قصة وحكاية أخرى . كلماتها غير تلك. ومنفذو الهجمة الوحشية عليه غير . فزمرة من المجمعين من شوارع وبارات بازل ولقطاء الأمس . كانوا قد اعتدوا عليه واحرقوا محله وبولوا على أرضية المحل قبل أن يعتدوا على اثنين من أبنائه أيضا كان هذا في الحادي عشر من تموز من عام ألفين وأربعة .ثم قاموا برش مادة كيميائية على وجهه مما تغير شكله بعد مكوثه لمدة شهر بالمشفى للتماثل للعلاج .. وروى بحرقة ودموع الرجال كيف القوا كلام الله المنزل على محمد بن عبد الله (ص) واليوم لم يبقى له سوى سنين من الذكريات التي لن تستطيع قوة حرقها ..وحمل كل هذا ليرويه إلى المراقبين الدوليين في محافظته . وإلى عدد لا بأس به من مؤسسات حقوق الإنسان. وخسر كل شيء.

تقف السلطة الفلسطينية جاهدة .لإعادة الاعتبار لسوق الخليل القديمة من خلال إعادة فتحه وعودة الحياة به إلى سابق عهدها .. إلى أن قامت مؤخراً بدفع مبلغ مائتي دولار لأصحاب المحلات المغلقة.. وحين زرت مقر مديرية وزارة الاقتصاد الفلسطينية في محافظة الخليل وسألت مديرها عن الجهود المنوي بذلها لتصعيد هذه القضية أجابني أن أولى البنود التي تضعها الوزارة ضمن خطتها هو استمالة أكبر قدر ممكن من المؤسسات الدولية والحكومية للضغط على دولة الابرتهايد والترانسفيل الممارس ببلدة الخليل القديمة وسوقها لإنهائه وإعادة الاعتبار للبلدة وسوقها ومحافظتهم .

وكان وزير الزراعة ادعيق قد زار محافظة الخليل الشهر المنصرم وقد خص بلدة الخليل القديمة بجزء من زيارته .. وقام معاليه بزراعة عدد من الأشجار في ثنايا ما تبقى من  أمتار من أصل كيلومترات .كما وأكد أن بلدة الخليل القديمة ومحافظتها جزء لا يتجزأ من مشروع إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية .. وأن السلطة بكافة مؤسساتها ولجانها وبكل ما تستطيع من وسائل وطرق ستبقى إلى جانب المواطنين هناك .

كانت أسواق الخليل بما تحوي من كل الأنواع والأصناف نقطة ارتكاز أساسية بالحالة الاقتصادية الفلسطينية على الصعيدين العام والخاص .. وقد نظمت فعاليات الخليل وقواها السياسية العديد من الفعاليات والاعتصامات للمطالبة بإعادة فتح السوق وإنهاء الألم والمعاناة الواقعة على رأس المواطنين .مما استطاعت أخيراً من استصدار قرار من محكمة عدل الاحتلال العليا بالسماح لأصحاب المحلات بفتح محالهم لمدة خمس ساعات يومية عدا أيام الأعياد الإسرائيلية ويوم السبت.
وكلمة حق يجب أن تكتب هنا .ففي أثناء إعدادي لمادة هذا البحث .. صادفت عجوزا طاعنة بالسن ..فكنت تنبأت أنها ذات يوم كانت من المؤمنين لسوق الخليل العتيقة .. وبالفعل هذا ما كان . تحدثت إليها..فوجدتها تحفظه غيبا كأنها إحدى مواليده..غرقت العجوز بيسان باللاشعور جراء ما تعرض له كل ما تمنت أن يبقى .. ولا يذهب بعيداً عنها .. فبحثت في المجهول عنه .. ولن تقطع الأمل من يوم أكيد سيعود إليها حاملاً لها بشرى أنه عاد حرا .والعجوز بيسان برغم كل عوامل الخنق والحصار..تقول أن سوق الخليل العتيقة سيعود نابضاً بالأشياء والأسماء كما كان .. وهي لا تزال تنتظر سوقاً يقدم كل ما تريد لها مادام هو جزء من كرامتها وكرامة المدينة التاريخية والدينية .وبعيون تنهال منها الحسرة والأنين قالت سيدة العيون السوداويتين الصغيرتين (سوق الخليل أحلى سوق..رحت وشفت يا بنتي ..بس مثل هالسوق لا شفت ولا رح أشوف.. كل اشي أصلي وكويس كتير فيه)

تركت المكان والزمان عندها.. لن يتوقف ما دام البلد الأمن نابضاً بحب أبنائه له .. وما دامت لديهم الإرادة والعزيمة والإصرار والتحدي .. في استلال حريتهم من الشمس .. وأن يعيدوا الشهيق لمحال الخليل العتيقة بسوقها الغارق بعد أيام الإغلاق والاعمار .. لأجل أن يعود زاهي الألوان .. والمتناثر الأصناف إلى أن تجد شمس الحرية الحقيقية طريقها إليه .. لحياة أكثر أمنا وسلاماً للسكان الأصليين .. وأن يعود كل تاجر فيهم يحمل بين يديه مفاتيح محله متى يشاء ينشر أبوابه ومتى أراد يقول له إلى اللقاء .معلنا للبلابل وشذى الحسون ووفاء الزرع والقمح أن تغني وتعزف كما يحلو لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق